في مثل هذه الظروف كيف يمكن للفرد أن يحصل على محاكمة عادلة؟ كيف يمكن لقاض أن ينطق بحكم مختلف ضد الإرادة التعبوية العارمة؟
والفكرة في العنوان بعاليه، لا تحتمل أن نهدي لمصر، ثقافة أو شعباً، نصيحة وهم المدرسة الأعمق في نسق الكم التراكمي من مجمل الإرث العربي. كل القصة ليست حسني مبارك، بل هي القصة في الفرد، أياً كان، وهو يبحث عن العدل أو الإنصاف أو حتى أصول المحاكمة الشفافة في هذا الموج الهادر من الأدبيات والتجييش المضاد. من هو القاضي الذي يستطيع أن يقول – لا – ثم ينطق بالحكم الذي يصيب هذا المد الصارخ بالدهشة؟ من هو الكاتب الذي يستطيع اليوم في طول مصر وعرضها أن يكتب رأي القلة أو الكثرة الصامتة التي لا ترضى هذه النهاية لرئيس مصر، التي تشبه نهايات صدام حسين ودوشنبه ونيكولاي تشاوشيسكو رغم الفوارق الهائلة ما بينه وبين هؤلاء؟ والحق أنني في جل أو حتى كل ما استطعت قراءته – إلكترونياً – من صحافة الشقيقة مصر لم أعثر على كاتب واحد تشجع ليقول بكلمة اختلاف في حق – مبارك – وهو يصبح المادة القضية. على العكس لدي بالبراهين عشرات الكتاب الذين كانوا معه بداية يناير ثم انقلبوا عليه في نهاية فبراير وهذا لا يفضح النفاق فهم أبرياء من التهمة بل يفضح أهم مبادئ الثورة: الحرية التي تقول بها ألف ألف مرة فمن هو الكاتب الحر الذي يستطيع أن يقف أمام هذا الطوفان وهنا أخطر أمراض الحرية في الثقافة العربية حين توغل في لجم كل من يختلف مع قياساتها فلا يلد منها إلا كبت هذا الاختلاف. تشدق البعث بمفردة الحرية، والحرية لديه هي فقط مفردات البعث. تشدقت الحركة الناصرية بالحرية وإن لم تكن ناصرياً فلا حرية لك أن تقول. قالت جل حركات الإسلام السياسي إن الدين هو الحرية ولكن بحسب نسختها من صورة الدين. وفي المؤشرات التي تقرأ أدبيات الثورة المصرية لا توجد مفردة شائعة بأكثر من مفردة – الحرية – ولكنها بالقياسات التي تتطابق مع دفع المرحلة التي تتهم علناً أي صوت مضاد بالعمالة والخيانة والانتساب للنظام البائد.
وفي مثل هذه الظروف كيف يمكن للفرد أن يحصل على محاكمة عادلة؟ كيف يمكن لقاض أن ينطق بحكم مختلف ضد الإرادة التعبوية العارمة؟ كيف يمكن لنائب التحقيق أن يكتب في أوراقه وقائع وحقائق مختلفة إن كان هذا المستشار قد استأثر بعشرات التحقيقات الصحفية لمجرد أنه واجه المتهم للمرة الأولى لثلاث ساعات وكل الإعلام التعبوي يتحدث عن شجاعة هذا المستشار الشاب وجرأته ورباطة جأشه وقدرته على – تصغير – صورة المتهم ووضعها في مكانها الجديد اللائق بعد أن كانت هي الصورة الطاغية. كيف يمكن للفرد في مثل هذه الظروف أن يدافع عن موقفه إذا كانت كل الحيثيات من حوله تدفع القاضي والمحامي والنيابة العامة إلى الإدانة لأنها الرغبة الشعبية الجارفة بغض النظر عن ما سيقوله القانون؟ وكيف يمكن لقصة اتهام أن تكون مكتملة الأركان إذا كنت لا تستطيع أن تقرأ أو تسمع في أكبر منظومة إعلامية عربية مقالاً واحداً أو جملة واحدة تخالف – صوت الثورة – وكيف يمكن تفسير هذه الظاهرة بغير الكبت ومصادرة حرية التعبير. ما يحدث يثبت بالبرهان أن الثورة الوليدة تلد من رحم (المجمع القومي للثورات العربية) وترث منها تفاصيلها الجينية ومكونات هندستها الوراثية وأبرزها كبت الصوت المختلف وكثافة التجييش ومصادرة الفكرة المقابلة والرأي الآخر.
وبالطبع، أنا لا أقول في المطلق إن المتهم بريء مثلما لا أطلب إسقاط المحاكمة. وخذوا بالمقاربة والمقارنة إسرائيل وإيطاليا وهما يحاكمان رئيس الدولة والوزراء على التوالي في البلدين بتهم مختلفة. استغرقت إسرائيل 39 شهراً كاملة كي تقدم للقضاء الإسرائيلي لائحة الإدانة، فيما إيطاليا تنهي العام الثاني وهي تفاضل بين المداخل القانونية التي يمكن بها محاكمة الجنح ولم تنته منها بعد. وفي المقابل تثبت الوقائع في الحالة المصرية مع الثورة الوليدة أن أول شخص فيما يسمى برموز النظام قد أودع السجن في اليوم الرابع مباشرة لنجاح الثورة وأن ستة منهم أيضاً قد لحقوا به قبل نهاية الأسبوع الأول. وهنا لا يبرز – المدخل القانوني – لأنه غائب بالفعل ولكن يبرز ما هو أهم: كيف تمت بهذه السرعة الضوئية إعدادات الملفات المختلفة التي تضمنت التهم وكيف تثبتت لوائح الادعاء وحيثيات البراهين القانونية وكيف اكتملت شروط الإدانة تمهيداً لرفعها لقضاء يفتخر على الدوام بأنه مازال من بين المؤسسات الحكومية التي تتمتع بالنزاهة والاستقلال؟ هنا نحن بالتأكيد على أبواب – إدانة – مسبقة تحت الضغط الاجتماعي وتحت قوة دفع الثورة وقد لا تختلف ثورة 25 يناير 2011 عن أمها ثورة 25 يوليو 1952 من حيث رضوخها لما يريده الجمهور ومن حيث الحرية التي أتت بها لتصادر الحرية المضادة. في الثورة الأولى دخل العشرات السجون من اليوم الأول، وفي الأخيرة حذو القُذَّة بالقُذَّة وهنا يبرز بكل وضوح وجل المستبصرين بعواقب هذه الثورات المستنسخة في ديكتاتوريتها من جينات بعضها البعض ومن تفاصيل هندستها الوراثية. العدالة في القاموس العربي لم تكن أبداً عدالة القانون بقدر ما هي رغبة الثورة واتجاهاتها ولعله لهذا طبق أو جرب هذا العالم العربي مئات الثورات في تاريخه دون أن تصل به ثورة واحدة إلى أبواب القانون ولا إلى الحرية والعدالة. كل ثورة لها مقاساتها في مفهوم الحرية وأي شيء لا يتفق مع هذا المفهوم ليس إلا خيانة وعمالة. وكل ثورة عربية تنتصر بإذلال وإهانة من ثارت عليه لأن الانتقام يدفعها إلى التشبه به في الإذلال والانتقام واقرؤوا أدبيات الإعلام المصاحب لهذه الثورات المختلفة وتعليقات القراء على مقالاتها وأخبارها لتكتشفوا أن عالمنا العربي لم يتقدم لمفاهيم الحقوق والقانون خطوة واحدة. نحن مجرد ثورات مستنسخة من بعضها البعض.
علي سعد الموسى 2011-04-17
وفي مثل هذه الظروف كيف يمكن للفرد أن يحصل على محاكمة عادلة؟ كيف يمكن لقاض أن ينطق بحكم مختلف ضد الإرادة التعبوية العارمة؟ كيف يمكن لنائب التحقيق أن يكتب في أوراقه وقائع وحقائق مختلفة إن كان هذا المستشار قد استأثر بعشرات التحقيقات الصحفية لمجرد أنه واجه المتهم للمرة الأولى لثلاث ساعات وكل الإعلام التعبوي يتحدث عن شجاعة هذا المستشار الشاب وجرأته ورباطة جأشه وقدرته على – تصغير – صورة المتهم ووضعها في مكانها الجديد اللائق بعد أن كانت هي الصورة الطاغية. كيف يمكن للفرد في مثل هذه الظروف أن يدافع عن موقفه إذا كانت كل الحيثيات من حوله تدفع القاضي والمحامي والنيابة العامة إلى الإدانة لأنها الرغبة الشعبية الجارفة بغض النظر عن ما سيقوله القانون؟ وكيف يمكن لقصة اتهام أن تكون مكتملة الأركان إذا كنت لا تستطيع أن تقرأ أو تسمع في أكبر منظومة إعلامية عربية مقالاً واحداً أو جملة واحدة تخالف – صوت الثورة – وكيف يمكن تفسير هذه الظاهرة بغير الكبت ومصادرة حرية التعبير. ما يحدث يثبت بالبرهان أن الثورة الوليدة تلد من رحم (المجمع القومي للثورات العربية) وترث منها تفاصيلها الجينية ومكونات هندستها الوراثية وأبرزها كبت الصوت المختلف وكثافة التجييش ومصادرة الفكرة المقابلة والرأي الآخر.
وبالطبع، أنا لا أقول في المطلق إن المتهم بريء مثلما لا أطلب إسقاط المحاكمة. وخذوا بالمقاربة والمقارنة إسرائيل وإيطاليا وهما يحاكمان رئيس الدولة والوزراء على التوالي في البلدين بتهم مختلفة. استغرقت إسرائيل 39 شهراً كاملة كي تقدم للقضاء الإسرائيلي لائحة الإدانة، فيما إيطاليا تنهي العام الثاني وهي تفاضل بين المداخل القانونية التي يمكن بها محاكمة الجنح ولم تنته منها بعد. وفي المقابل تثبت الوقائع في الحالة المصرية مع الثورة الوليدة أن أول شخص فيما يسمى برموز النظام قد أودع السجن في اليوم الرابع مباشرة لنجاح الثورة وأن ستة منهم أيضاً قد لحقوا به قبل نهاية الأسبوع الأول. وهنا لا يبرز – المدخل القانوني – لأنه غائب بالفعل ولكن يبرز ما هو أهم: كيف تمت بهذه السرعة الضوئية إعدادات الملفات المختلفة التي تضمنت التهم وكيف تثبتت لوائح الادعاء وحيثيات البراهين القانونية وكيف اكتملت شروط الإدانة تمهيداً لرفعها لقضاء يفتخر على الدوام بأنه مازال من بين المؤسسات الحكومية التي تتمتع بالنزاهة والاستقلال؟ هنا نحن بالتأكيد على أبواب – إدانة – مسبقة تحت الضغط الاجتماعي وتحت قوة دفع الثورة وقد لا تختلف ثورة 25 يناير 2011 عن أمها ثورة 25 يوليو 1952 من حيث رضوخها لما يريده الجمهور ومن حيث الحرية التي أتت بها لتصادر الحرية المضادة. في الثورة الأولى دخل العشرات السجون من اليوم الأول، وفي الأخيرة حذو القُذَّة بالقُذَّة وهنا يبرز بكل وضوح وجل المستبصرين بعواقب هذه الثورات المستنسخة في ديكتاتوريتها من جينات بعضها البعض ومن تفاصيل هندستها الوراثية. العدالة في القاموس العربي لم تكن أبداً عدالة القانون بقدر ما هي رغبة الثورة واتجاهاتها ولعله لهذا طبق أو جرب هذا العالم العربي مئات الثورات في تاريخه دون أن تصل به ثورة واحدة إلى أبواب القانون ولا إلى الحرية والعدالة. كل ثورة لها مقاساتها في مفهوم الحرية وأي شيء لا يتفق مع هذا المفهوم ليس إلا خيانة وعمالة. وكل ثورة عربية تنتصر بإذلال وإهانة من ثارت عليه لأن الانتقام يدفعها إلى التشبه به في الإذلال والانتقام واقرؤوا أدبيات الإعلام المصاحب لهذه الثورات المختلفة وتعليقات القراء على مقالاتها وأخبارها لتكتشفوا أن عالمنا العربي لم يتقدم لمفاهيم الحقوق والقانون خطوة واحدة. نحن مجرد ثورات مستنسخة من بعضها البعض.
علي سعد الموسى 2011-04-17
صحيفة الوطن
0 comments:
إرسال تعليق
جميع الردود تعبّر عن رأي كاتبيها فقط. حريّة النقد والرد متاحة لجميع الزوار بشرط أن لا يكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من الكلمات البذيئة. تذكّر قول الله عز وجل (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد).